Sunday 4 July 2010

مذكرات أحمد الكاتب.. سيرتي الفكرية والسياسية.. من نظرية الإمامة..إلى الشورى

مذكرات أحمد الكاتب

سيرتي الفكرية والسياسية.. من نظرية الإمامة..إلى الشورى

عندما أبصرت النور صباح عيد الفطر من سنة 1372 المصادف 13 حزيران 1953 في مدينة كربلاء في العراق ، كان النظام الملكي في العراق يلفظ أنفاسه الأخيرة ، في حين كانت المعارضة العراقية تتصاعد وتتخذ طابعا يساريا "شيوعيا" أو هكذا كان النظام يوحي الى الناس وخاصة المؤمنين منهم. وعلى رغم أن مدينة كربلاء ذات الطابع الديني كانت تقف موقفا سلبيا من النظام الملكي الذي قام على أنقاض ثورة العشرين التحررية التي قادها المرجع الديني الشيخ محمد تقي الشيرازي ، وكان يتخذ من كربلاء مقرا له ، إلا انها شهدت ولادة حركة إسلامية للوقوف في مواجهة الموجة الإلحادية ، وذلك بقيادة مجموعة من رجال الدين بقيادة السيد محمد الشيرازي ، وكان والدي ( عبد الزهراء بن عبد الأمير بن الحاج حبيب الأسدي) واحدا من شباب تلك الحركة ، وكان يبلغ العشرين من عمره عندما تزوج في خريف 1952 وعاهد والدتي (شكرية بنت عباس بن علوان الهر) على ان يقدما باكورة زواجهما في خدمة الدين.

وكان أبي وجدي يكسبان قوتهما من تجارة خاصة بكربلاء هي تجارة (المسابح و الترب الحسينية) التي يسجد عليها الشيعة ، ولهما مع عدد من أعمامي واقاربي بضعة محلات في شارع علي الأكبر الذي يصل بين مرقد الأمام الحسين ومرقد أخيه العباس.

ومن المعروف أن مدينة كربلاء ، بنيت حول قبر الأمام الحسين بن علي الذي قتل على أيدي الجيش الأموي في عهد يزيد بن معاوية. وكانت في البدء قرية صغيرة ثم تطورت الى مدينة تضم حوالي خمسين ألفا من العرب والعجم الذين هاجروا اليها في القرون الماضية. ويغلب عليها الشيعة الامامية الاثنا عشرية ، وفيها حوالي مائتي مسجد كلها للشيعة ما عدا مسجد واحد أو اثنين لأهل السنة يقع أحدهما في شارع النجارين ، وهو خاص لموظفي الحكومة وبعض الأفراد من السنة. وكنت تتعرف عليه بسهولة من خلال الأذان المختلف في بعض العبارات وفي التوقيت المبكر صباحا وعند الغروب.

عندما كنت في الخامسة من العمر ، كان بيتنا يقع في شارع الأمام علي بالقرب من ذلك المسجد. ولكن والدي لم يكن يصلي فيه ، وإنما كان يدأب على الصلاة جماعة إما في الحرم الحسيني خلف السيد مهدي الشيرازي أو خلف رجل دين آخر اسمه السيد محمد رضا الطبسي في مسجد يقع في باب العلقمي في الشرق من مرقد العباس بن علي . وكان هناك مسجد آخر قريب من بيتنا أتذكر ان والدي مع مجموعة من أصدقائه كانوا يقيمون فيه محفلا أسبوعيا للقرآن الكريم ، يقع في نفس الشارع الى الشمال من ساحة البلوش. وذلك في بداية مجيء عبد الكريم قاسم الى السلطة عام 1958

وفي تلك السن (الخامسة) علمتني والدتي الأبجدية وقراءة القرآن ، بعد ما كانت تنتهي من أعمال المنزل خاصة وأنني كنت ابنها البكر. وعندما بلغت السابعة أخذني والدي الى مدرسة أهلية إسلامية حديثة هي (مدرسة الأمام الصادق) والتي كان يديرها الخطيب السيد مرتضى القزويني ، وذلك لأن بعض المتدينين ، وأبي منهم ، كانوا لا يزالون يلتزمون بقرار المقاطعة الذي أصدره مراجع الدين في بداية تأسيس العراق الحديث ، ضد المدارس الحكومية التي رأوا فيها وسيلة لإفساد الشباب وإبعادهم عن الدين وعن سلطة المراجع الدينية في آخر الأمر. إضافة الى قرار مقاطعة الدولة العراقية ودوائرها ووظائفها. ورغم أن تلك المدرسة كان معترفا بها من قبل وزارة المعارف وتطبق المنهاج الدراسي الحديث إلا انها كانت تنطوي على برامج دينية مكثفة وتحت إشراف وادارة رجال الدين.

وكنت متشوقا لدخول المدرسة ، ولكن المدير رفض تسجيلي فيها لأن عمري حسب الجنسية كان يقل بثلاث سنوات. وكان ذلك بسبب خطأ أو تساهل ارتكبه كاتب النفوس في إحصاء عام 1957 وهكذا رجعت خائبا مع أبي الى البيت . ولم يفكر أبي أبدا بإرسالي الى المدارس الحكومية.

وفي سنة 1960 انتقلنا الى بيت آخر في شارع العباس في محلة باب الخان ، فسجلني والدي لدى أحد الكتّاب وهو الشيخ عبد الكريم الذي كان يتخذ من غرفة في زاوية من صحن العباس مدرسة له، يعلم فيها حوالي خمسين طالبا القراءة والكتابة والحساب ويركز فيها على قراءة القرآن الكريم ، وكان علي أن اجلب معي مقعدا للجلوس عليه بالإضافة الى الدفاتر والأقلام.

من يعيش في كربلاء في تلك الأيام كان لا بد ان يتعرف على قصة استشهاد الإمام الحسين بصورة تلقائية، فكربلاء مدينة أسست حول الحسين وكانت تسمى في القرون الوسطى (مشهد الحسين) وأينما ذهب المرء ومتى ما ذهب هناك مجالس حسينية تقام في كل مسجد وفي كل حارة وفي كل زقاق وفي البيوت خلال شهري محرم وصفر وفي مناسبات عديدة أخرى هي ذكريات وفاة الأئمة الاثني عشر الآخرين ، حيث تتشح مدينة كربلاء بالسواد وترتفع الرايات السود في كل أنحائها وتخرج مواكب العزاء من كل صوب فيها.

وفي ذات ليلة رأيت في منامي وكأن معركة كربلاء قد نشبت ورأيت الأمام الحسين يصرخ بندائه الشهير: ألا من ناصر ينصرني؟ ألا من معين يعينني؟ ووجدتني بالطبع التحق مع جيش الأمام الحسين ضد جيش يزيد. فقصصت رؤياي على والدتي التي شجعتني ورأت في ذلك علامة مبشرة بالخير وتمنت لي أن احشر مع سيد شباب أهل الجنة. وكانت أمي تقول لي بأننا من نسل حبيب بن مظاهر الأسدي ، باعتبارنا من قبيلة بني أسد ، وكان حبيب أحد زعماء الكوفة الذين دعوا الإمام الحسين الى القدوم الى العراق ، وثبتوا على مواقفهم ، وقد قتل وهو يذب السهام عن الإمام أثناء صلاته يوم عاشوراء. ولذلك دفن في ضريح خاص ، ولا يزال يوجد له صندوق خاص أمام ضريح الإمام الحسين يقع على يسار الداخل الى الحرم ، ولذلك كنت أجد علاقة روحية خاصة بيني وبينه عندما ازور الأمام الحسين كل أسبوع ، وأقف متأملا ومستلهما ومقبلا له ومتماهيا معه وعاقدا العزم على السير على دربه في نصرة الإمام الحسين في معركته الخالدة.

وإذا كان الإمام الحسين قد قتل قبل حوالي أربعة عشر قرنا ، فان ثمة معركة قادمة وإمام منتظر هو الإمام الثاني عشر الغائب (محمد بن الحسن العسكري) الذي كانت أمي تعدّني لأن أكون جنديا في صفوفه و "واحدا من أنصاره الثلاثمائة والثلاثة عشر المخلصين ، الذين يشكلون شرطا لظهوره" وكانت تقول لي أيضا بأن عليّ ان التزم بأرفع الأخلاق والآداب حتى أكون واحدا من أولئك الأنصار وأحظى بشرف اللقاء بالإمام المهدي الذي سوف يظهر قريبا ويملأ الأرض قسطا وعدلا بعد أن ملئت ظلما وجورا.

كانت والدتي تحكي لي قصصا عن لقاء الإمام المهدي بالشيعة المخلصين من ذوي الأخلاق العالية والالتزام الديني الدقيق. وكانت هناك في تلك الأيام عادة لدى بعض المؤمنين تتمثل في زيارة قبر الإمام الحسين أربعين ليلة جمعة أو زيارة مسجد السهلة في الكوفة أربعين ليلة أربعاء ، والإكثار من الصلاة والدعاء أملا في لقاء الإمام المهدي بعد ذلك. وكانت تحكي لي خصوصا قصة (الرمانة) وهي قصة كانت متداولة عن نجدة الإمام المهدي لشيعة البحرين الذي تعرضوا لامتحان قاس من أحد الحكام (السنة) الذي أحضر رمانة مكتوب عليها بشكل بارز أو ناتئ (اشهد أن عمرا ولي الله) وطالبهم بالانتقال من التشيع الى التسنن وإلا فسوف يقتلهم ، مما دفع الشيعة الى طلب مهلة ثلاثة أيام للتشاور والاستغاثة بالإمام المهدي ، فما كان منه إلا أن حظر في اليوم الأخير ولامهم على أخذ المهلة ثلاثة أيام ، وكشف لهم عن سر الرمانة ، وأخبرهم عن وجود قالب حديدي في بيت الوزير البحريني في الفلان المكاني ، فجاء علماء الشيعة وأخبروا الحاكم بسر الرمانة ، فعفا عنهم. وهي قصة قرأتها بعد ذلك في كتاب كان ينتشر في كربلاء في تلك الأيام. ورغم انه لا يذكر التاريخ ولا أسماء إلا ان مضمون القصة يحكي عن حضور الإمام المهدي ونجدته لشيعته في أوقات المحن العصيبة. وهو ما عزز إيماني بوجود ذلك الإمام الذي نشأت على ان أكون جنديا من جنوده عند ظهوره. أو هكذا ربيت.

وفي تلك السنوات الأولى وربما قبل ان اكمل العاشرة ، سافرنا ذات يوم الى مدينة سامراء لزيارة قبر الإمامين علي الهادي والحسن العسكري وسرداب غيبة الإمام المهدي ، وكنا نستأجر في العادة غرفة لدى أحد البيوت من أهل سامراء الذين كانوا ينتمون الى المذهب السني ، واتذكر ان ربة البيت التي جلست تحادث والدتي أحبت ان تداعبني فعرضت علي الزواج من ابنتها ، ولكني رفضت بسرعة. ولما سألتني : لماذا ؟ قلت لها بصراحة طفولية: لأن بنتك سنية مثلك! مما سبب لوالدتي حرجا. وقد ندمت على جوابي ذلك بالطبع فيما بعد حيث خسرت زوجة جميلة من أهل سامراء المعروفين بجمالهم الفائق.

انتظرت ثلاث سنوات في الكتّاب ، حتى أصبح عمري رسميا سبع سنوات ، فالتحقت بمدرسة أخرى هي (مدرسة حفاظ القرآن الكريم) التي أسسها السيد مهدي الشيرازي عام 1960، وكان يديرها الشيخ ضياء الزبيدي. ولكني انتقلت الى الصف الثالث مباشرة مع أترابي ولأني كنت قد قطعت شوطا لدى الشيخ عبد الكريم. كان ذلك في عام 1963

وكانت هذه المدرسة دينية بحتة وتدرس برامج في القرآن والتفسير والتاريخ الإسلامي والأخلاق والفقه والحساب ، كلها من وضع وتأليف السيد محمد الشيرازي ، وأساتذتها من المعممين الشباب كالشيخ جعفر الهادي والشيخ كميل عبد الكريم والسيد عبد الحسين الفائزي والشيخ عبد الحسين والسيد إبراهيم الموسوي، ولم تنفتح المدرسة على الدروس الحديثة مثل اللغة الإنجليزية والجغرافيا والعلوم إلا في السنة الخامسة أو السادسة ، وذلك عندما حاولت إدارتها التقدم الى امتحانات البكالوريا وطلب الاعتراف الرسمي بها ، وهي محاولة فشلت حتى تم إغلاقها فيما بعد عندما جاء حزب البعث الى السلطة.

ولم يكن معظم طلبتها يحتاجون الى البكالوريا أو ينوون التوظف لدى الحكومة العراقية ، فقد كانوا ينتمون الى الجالية الإيرانية المعارضة للشاه ، أو الى العراقيين المتدينين الذين كانوا يلتزمون كوالدي بالحكم الشرعي ويرفضون إدخال أبنائهم الى المدارس الحكومية.

كما قلت كان والدي ذا توجه ديني وكان يدير حلقة قرآنية في أحد المساجد ويشارك في معظم المجالس الحسينية الكبيرة التي تعقد في كربلاء ، وكان يأخذني معه بالطبع . وكانت المواضيع التي يتحدث فيها الخطباء تدور حول قصة الإمام الحسين وسيرته وحياته بالإضافة الى قصة الخلافة والسقيفة وقصص الأئمة الآخرين مع خلفاء زمانهم. ولم أكن أحتاج لأقرأ كتبا خاصة حول الموضوع فقد كان الطفل ينشأ في تلك الأجواء معبأ بثقافة شيعية مركزة ومتطرفة. ويعي هويته الطائفية أكثر من أية هوية أخرى قومية أو طبقية أو قبلية. ومع ذلك فقد كان والدي المثقف ثقافة شيعية يحرص على تدريسي في البيت خطب الإمام علي في نهج البلاغة وخاصة الخطبة المعروفة بالشقشقية ، التي يتحدث فيها الإمام عن قصة الخلافة ويشتكي من الشورى والخلفاء السابقين ، ويؤكد على حفظها عن ظهر قلب. وهو الذي أعطاني أول كتاب لأقرأه بدقة عندما كنت في الثانية عشرة. وذلك الكتاب هو (المراجعات) للسيد عبد الحسين شرف الدين العاملي ، وهو عبارة عن حوارات شيعية سنية أجراها مع شيخ الأزهر في يومه الشيخ سليم البشري ، وقد بدت لي أدلته مقنعة ومستندة الى مصادر السنة ، وقد اعترف الشيخ البشري في نهاية الحوار بجواز التعبد بالمذهب الجعفري ، كما أعطاني والدي في بداية شبابي كتب الشيخ محمد جواد مغنية التي كان والدي يحرص على اقتنائها بالإضافة الى مجلدات بحار الأنوار التي كانت تردنا شهريا من إيران. وكان والدي يتابع معظم الإصدارات الشيعية في كربلاء والعراق ولبنان ، وله مكتبة في زاوية من البيت. وأتذكر من بينها كتابا أصدرته سلسلة (منابع الثقافة الإسلامية) في كربلاء ، وهو (لماذا اخترت مذهب أهل البيت) للشيخ محمد أمين الانطاكي الذي تحول الى المذهب الشيعي بعد ان كان قاضيا في انطاكيا قرب حلب. والى جانب ذلك كان في مدرستنا معلم من أهل الموصل هو (الشيخ محمد نديم الطائي) كان سنيا في السابق و تشيع في زيارة له الى كربلاء على يدي السيد مرتضى القزويني. مما عزز لدي قناعة قوية بأن المذهب الشيعي الإمامي الاثني عشري هو المذهب الحق وانه يمثل الإسلام الصحيح. ولذلك كنت انظر نظرة خاصة تحمل شيئا من التعجب والغضب الى جار لنا من أهل عين التمر ينتمي الى الطائفة السنية ، وأتساءل: لماذا يصر ويعاند ولا يقبل مذهب أهل البيت؟!

و بالإضافة الى مناهج الدراسة العامة التي كنت أتلقاها في مدرسة حفاظ القرآن الكريم ، كانت تربطني بالمشرف على المدرسة إمام مدينة كربلاء الأكبر ، السيد محمد الشيرازي ، علاقة خاصة، حيث كنت أدأب على الصلاة خلفه وأسأله مسائل فقهية كثيرة وأهب لتقبيل يديه عندما يمر من أمام محلنا في شارع علي الأكبر (الذي كان يربط بين مرقدي الحسين والعباس)، كما يفعل كثير من المريدين ، تقديرا وتعظيما له .

وكان الشيرازي قد أطلق حركة إسلامية نشطة على شكل (هيئات) لتلاوة القرآن وتجويده وتعليم أحكام الدين ورد الشبهات وما الى ذلك ، وبعد أن كنت احضر عددا منها هنا وهناك ، بادرت الى تشكيل هيئة خاصة بطلاب مدرستنا ، لعقد مجلس قرآني كل ليلة جمعة ، وإحياء مجالس العزاء في ذكرى وفيات الأئمة من آل البيت ، وأسميتها (هيئة دعاة الرسول الأعظم).

وفي عصر ذات يوم جاء أحد زملائي ليناديني ويخبرني بأن السيد الشيرازي يدعوني الى بيته أو ديوانيته ، فسارعت الى تلبية طلبه مستغربا ، وعندما جلست وقدم لي الشاي اقترح علي أن أقوم بحملة إعلامية تتضمن تعليق لافتات تحمل عبارات دينية وآيات قرآنية ، وملصقات على الجدران والأعمدة في الشوارع الرئيسية ، ومناشير للتوزيع على الناس ، وأعطاني مبلغا من المال لأشتري القماش والورق اللازم واذهب الى أحد الخطاطين لكتابتها ، ثم القيام بعد ذلك بتعليق اللافتات في الشوارع الرئيسية وعلى مداخل مسجدي الإمام الحسين وأخيه العباس. وطباعة المناشير في إحدى المطابع وتوزيعها على الزوار ، فقمت مع بعض الزملاء الذين اتفقت معهم لتنفيذ المهمة ، واستطعنا تغطية المدينة إعلاميا بشكل جيد ، وهكذا كنا نقوم بالعملية في كل مناسبة دينية ، وما اكثر المناسبات التي كانت كربلاء تكتظ خلالها بالزائرين.

وهكذا تعززت صداقتي بالسيد الشيرازي الذي كنت أزوره دائما واحضر مجالسه العامة والخاصة ، وبدأت "أقلده" حتى قبل ان ابلغ وأتكلف بصورة شرعية.

كانت كربلاء في عقد الستينات تجاهد من أجل وقف المد الشيوعي والقومي والإلحادي والغربي الذي غزا العراق ، واتذكر أنى كنت أرافق والدي ذات مرة الى محاضرة يلقيها الخطيب السيد محمد كاظم القزويني في بيت أحد الأصدقاء وكانت له مجالس أسبوعية للشباب دوارة في البيوت ، وكان عمري يناهز الحادية عشرة ، فطرح الخطيب فكرة تخصيص واحد من الأبناء لدراسة العلوم الشرعية ، والتبليغ للإسلام في أوربا وأمريكا. ومن دون أن يقول لي أبي شيئا تلقفت منه الفكرة وعقدت العزم على ان أكون كذلك في المستقبل ، وهو أمر سيرحب به والدي ووالدتي بلا شك. وربما كان السيد القزويني الذي كنت ادأب على حضور مجالسه مع والدي كل أسبوع ، أحد أهم الذين أثروا في حياتي في تلك الأيام ، حيث كنت أتلقى كلماته وتعليماته بكل قبول ، واتذكر أنه كان يحث أهالي مدينة كربلاء على حسن الأخلاق في التعامل مع الزوار ، وبمراقبة حجاب النساء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، كنت انفذ تعليماته حرفيا وذلك بالطلب من النساء اللواتي يشترين من محلنا أو يتجولن في الشوارع أو يجلسن في المساجد ، ويبدين خصلات من شعورهن ، بالتقيد بالحجاب الإسلامي وتغطية الشعر بدقة ، ولم أكن أجد حرجا لأني كنت طفلا صغيرا ، ولكني في ذات مرة كدت أتلقى علقة من زوج إحدى النساء التي طالبتها بالالتزام بالحجاب ، فزجرني وطالبني بالاهتمام بأخواتي. ولكن ذلك لم يكن ليمنعني عن تنفيذ الأحكام الشرعية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وعندما بلغت الرابعة عشرة ، اقترح علي السيد الشيرازي أن ارتدي العمامة والجبة ، زي رجال الدين ، وكنت لا أزال في الصف السادس في مدرسة حفاظ القرآن الكريم الابتدائية ، وطلب مني أيضا إقناع عدد من الزملاء للانخراط في سلك رجال الدين ودراسة الفقه والعلوم الإسلامية، فوافقت على الفور ، وأخبرت والديّ بالموضوع فرحبا بالفكرة بسرعة .

كنت مقتنعا بالفكرة وراغبا فيها بل ومنغمسا في الدراسة الفقهية خارج أوقات الدراسة في المدرسة ، واستطعت ان اقنع زميلا وصديقا واحدا هو الشيخ كاظم السباعي ، فارتدينا العمامة في يوم واحد حيث ألبسنا إياها السيد الشيرازي بنفسه ، في بيته وذلك في سنة 1967. وكان منظرنا غريبا جدا ونحن نمشي في شوارع المدينة ذهابا وإيابا من البيت الى المدرسة ، أطفالا بزي رجال دين ، من دون لحى أو شوارب ، ثم استطعت ان أقنع بعض الأصدقاء الآخرين كالشيخ محمد أمين الغفوري والشيخ صاحب حسين الصادق ، لينضموا الى خطنا. وكان هؤلاء يعيشون في نفس الأجواء التي كنت أعيشها من حيث العائلة والمدرسة والمحيط.

وبينما كنت أسير ذات صباح من عام 1968 ، وبالذات في 17 تموز منه ، من البيت الى مدرسة (ابن فهد الحلي) حيث كنت ادرس الاجرومية في النحو أو قطر الندى ، على يدي الشيخ عبد الحميد المهاجر ، وإذا بي اسمع في الطريق صوتا ينبعث من الراديو في أحد المحلات ويتجمهر حوله عدد من الرجال ، وكان المذيع هو الضابط حردان التكريتي أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة ، وهو يذيع بصوت جهوري بيانات انقلاب 17تموز ، فأسرعت الى المدرسة وأخبرت الأستاذ والزملاء ، حيث لم يكن من المعتاد ان يحتفظ أي أحد في المدارس الدينية بمذياع أو تلفزيون ، وهما آلتان كانتا محرمتين في عرف المتدينين في ذلك الحين.

لم تكن الحوزة ولا الحركة الإسلامية تهتمان كثيرا بالتطورات السياسية في بغداد ، وكان المتدينون في كربلاء ، يعيشون في عصر آخر يضرب بعيدا في أعماق التاريخ ، حيث الصدر الأول ، وكانت الثقافة العامة التي يتم تداولها في المجالس والكتب والمجلات والمحاضرات تدور حول تاريخ الإسلام ، وقصة السقيفة والشورى ، والظلم الذي لحق بآل البيت والسيدة فاطمة الزهراء وقصة كربلاء وكذلك قصص بقية الأئمة الاثني عشر مع خلفاء زمانهم الأمويين والعباسيين ، إضافة الى تفسير آيات من القرآن الكريم وشرح أحاديث أهل البيت. وكان الخطباء المشهورون في تلك الأيام هم الشيخ عبد الزهراء الكعبي والسيد كاظم القزويني وابن عمه السيد مرتضى القزويني والشيخ هادي الكربلائي وآخرون. إلا ان بعض هؤلاء الخطباء كانوا أحيانا ينتقدون الحكومة من طرف خفي ، أو كما كنا نقول:"يضربون مسامير" .

وربما كان بعض قادة الحركة الإسلامية يتابعون التطورات السياسية ، ولكنهم لم يكونوا يتحدثون في الاجتماعات العامة والمجالس الحسينية أي شيء عنها ، وكان السيد الشيرازي بالذات منهمكا في نقاش ساخن مع أعضاء حزب الدعوة الإسلامية الذين كانوا ينشطون تلك الأيام ، حول شرعية التطبير (ضرب الرؤوس بالسيوف يوم عاشوراء) والشعائر الحسينية ، وقام الشيرازي بنفسه بتأسيس موكب خاص للتطبير لطلبة الحوزة العلمية حتى يؤكد شرعية هذا الطقس الحسيني ويخرس معارضة المثقفين من الدعاة وغيرهم. وذهب السيد كاظم القزويني سنة 1965 الى الهند فشاهد الهنود يقيمون احتفالا خاصا بمناسبة مقتل الحسين وهو الركض حفاة خطوات على جمر ملتهب ، فقام بنقل هذا الطقس الغريب الى كربلاء بمساعدة الشيرازي ، مما أثار استنكار المثقفين الذين استعانوا بالمرجع الأعلى السيد محسن الحكيم ليصدر فتوى بتحريم هذا النوع من تعذيب الذات.

وحصل سنة 1966 احتقان بين جماعة الشيرازي التي كنت انتمي اليها وبين حزب الدعوة أو أنصار (الجمعية الخيرية الإسلامية) الذين كان ينتمي اليها بعض أخوالي ، حول موضوع التطبير ، وذلك عندما قام أحد أعضاء الحزب وهو السيد صادق طعمة بإلقاء خطاب أدان فيه بعض الممارسات العنيفة في شعائر الحسين أيام عاشورا ، فما كان من بعض أنصار الشيرازي إلا ان قاموا بمظاهرة والهجوم على مقر الجمعية في شارع الإمام علي وتحطيمه ، وقيل ان ذلك تم بإيعاز من السيد حسن الشيرازي ، الأخ الأصغر للسيد محمد. ومع ان الحادث لم يترك جرحى أو ضحايا إلا انه ترك شرخا عميقا في الحركة الإسلامية الوليدة وبين المتدينين في كربلاء.

لقد كنا في واد وكانت السياسة في واد آخر..

ومع ذلك كانت كربلاء تشهد مهرجانا سنويا تتزين فيه شوارعها وأعمدتها ومحلاتها بالزينة ويقام احتفال كبير في (الحسينية الطهرانية) التي تقع في حائر الأمام الحسين ، والتي يوجد فيها قاعات حديثة و كبيرة جدا ، ويحضرها وفود من كافة أنحاء العراق ، وذلك في مناسبة ميلاد الإمام علي بن أبى طالب في 13 رجب من كل عام ، وقد كان المهرجان الثقافي الضخم يتخذ منذ سنة 1960 طابع التحدي للشيوعية والأنظمة القائمة وخاصة حزب البعث في عهده الأول.

كما كانت كربلاء تشهد في مناسبات أخرى كمناسبة (زيارة أربعين الإمام الحسن) التي تصادف في العشرين شهر صفر ، والتي يحضرها الشيعة من كل أنحاء العراق والعالم ، ويحتشد فيها مئات الألوف ، وتخرج كل قرية أو مدينة أو قبيلة موكبا خاصا بها للعزاء تستمر على مدى يومين ، وتجوب شوارع المدينة.

وكان الحزب الشيوعي العراقي يستغل في بعض الأحيان موكبا خاصا ليردد هتافات خاصة تشيد بالاتحاد السوفيتي و تبجل الإمام الحسين وصحبه الشهداء في كربلاء ، في محاولة لكسب تأييد الشيعة المتدينين. وإبعاد تهمة الإلحاد عن نفسه.

وفي الحقيقة كان التيار الديني يشعر بالهزيمة في تلك الأيام أمام الموجة الشيوعية والقومية والغربية و"الإلحادية" التي عمت العراق في الخمسينات والستينات ، وخاصة الشباب المثقف والمتعلم ، ولذلك كان قادة الحركة الإسلامية الجديدة يعملون من أجل المستقبل البعيد ، وكانوا يؤسسون لعقود قادمة، ومن هنا اختلف الحركيون حول موضوع مهم هو شرعية القيادة المرجعية ومدى صلاحيتها والقدرة على التعويل عليها في قيادة الشارع الشيعي ، وبما أن الكثير من رجال الدين كانوا يحملون الجنسية الإيرانية ، وكانوا يبتعدون نتيجة لذلك عن العمل السياسي ، منذ تهجير ونفي عدد من كبار المراجع في أعقاب فشل ثورة العشرين وتقوقع المرجعية على نفسها ، فقد وجدت الحركة الإسلامية الشابة بقيادة حزب الدعوة نفسها أمام مشكلة ابتعاد العلماء عن السياسة ، فحاولت تجاوز المرجعية الدينية بطرح نفسها أو بعبارة أدق وجد حزب الدعوة نفسه مدعوا لطرح قيادته ونظريته الحزبية وسيلة للعمل الإسلامي ، ولكن مرجعية السيد محسن الحكيم في النجف والسيد محمد الشيرازي في كربلاء وقفت في وجه الحزب ، وقام الحكيم بإصدار فتاوى بتحريم العمل تحت قيادة سرية ، كما قام الشيرازي بشن حملة ثقافية ضد فكرة الحزب في العمل الإسلامي واعتبارها نظرية غربية مستوردة تخالف القيادة الشرعية (المرجعية ) التي تشكل امتدادا لقيادة الإمام المهدي الغائب ، باعتبار العلماء نوابا عامين عنه في فترت (الغيبة الكبرى) وهي الفترة الممتدة منذ وفاة آخر نائب خاص (علي بن محمد الصيمري) من (النواب الأربعة) الذين يعتقد الشيعة الامامية الاثنا عشرية انهم كانوا على اتصال شخصي بالإمام المهدي في (غيبته الصغرى) التي استغرقت حوالي سبعين عاما من وفاة أبيه الحسن العسكري سنة 260 هـ وحتى سنة 329 هـ حيث غاب غيبة كبرى وانقطع كل اتصال شخصي به.

وبالتالي فان الحركة الإسلامية كانت تصطرع فيما بينها حول شرعية الحزب أو القيادة المرجعية ، وتخوض جدالات عنيفة ، وأتذكر أن السيد حسن الشيرازي نشر سنة 1963 كتابا حول الموضوع اسمه (كلمة الإسلام) .

يتلخص الكتاب في التنظير لقيادة الفقهاء المراجع كقيادة شرعية وحيدة في (عصر الغيبة) ورفض الطريقة الحزبية القائمة على الديموقراطية الغربية والانتخاب ، وذلك امتدادا للصراع التاريخي بين النظريتين السنية ، القائمة على الشورى ، والشيعية القائمة على النص والتعيين. ومن هنا كان تيارنا يدعو الى المرجعية ، والمتمثلة في قيادة السيد محمد الشيرازي المرجع الناشيء والواعد والحركي النشط.

وكانت التهمة الكبرى التي نوجهها لأعضاء حزب الدعوة هي انهم "خالصية" نسبة الى الشيخ مهدي الخالصي ، ابن أحد قادة ثورة العشرين الشيخ محمد الخالصي ، الذي نفي مع أبيه الى إيران ، ولم تسمح له السلطات العراقية بالعودة إلا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. وكان يحمل أفكارا إسلامية وحدوية ونقدية لكثير من ممارسات الشيعة ، وخاصة تركهم لصلاة الجمعة ، أو إضافة الشهادة الثالثة (أشهد ان عليا ولي الله) الى الأذان. وقد جوبه بمقاطعة ومحاربة من علماء النجف ، وبالخصوص من السيد الشيرازي في كربلاء الذي كان يكرس كل ماهو تقليد شيعي مثل الشعائر الحسينية والضرب بالسيوف والزناجيل ، وكان يرفض إقامة صلاة الجمعة ، بالرغم من أن أحد أساتذته وهو الشيخ محمد رضا الأصفهاني كان يقيمها في جامع الصافي . ولأن أعضاء حزب الدعوة كانوا يدعون لإقامة صلاة الجمعة فقد كان الشيرازي يعتبرهم "خالصية" (الأقرب الى السنة) وفي هذه التهمة كفاية لإسقاطهم!

اعتقال السيد حسن الشيرازي

وبينما كانت حركة الشيرازي الثقافية الإسلامية منطلقة في كربلاء والعراق ، وتكتسب المزيد من الأنصار والأتباع ، في جو من الحرية النسبية ، في ظل النظام الجديد (البعثي) والضعيف الذي كان يحاول أن يسترضي رجال الدين ، حدث توتر بين النظام العراقي ونظام الشاه في إيران عام 1969 ، وذلك عندما ألغى الشاه اتفاقية شط العرب لعام 1936 فطلب الرئيس العراقي يوم ذاك أحمد حسن البكر من المرجع الأعلى للشيعة في العالم السيد محسن الحكيم ، الذي كان على علاقة جيدة مع الشاه، أن يتوسط بين البلدين ويحل المشكلة ، ولكن الحكيم رفض التدخل في الأمور السياسية الدولية، مما دفع النظام العراقي الى شن حملة تهجير ضد طلبة العلوم الدينية في النجف ، وتصاعدت المواجهة بين الطرفين خصوصا بعد عقد المؤتمر الشعبي الكبير في ساحة حرم الإمام أمير المؤمنين، وإلقاء عدة خطابات تحدي ، وهنا ألقى النظام العراقي القبض على السيد حسن الشيرازي .

وكان السيد الحكيم يشعر بقوة شعبية كبيرة في مواجهة النظام البعثي المكروه من قبل عامة الناس ، فذهب الحكيم في جولة سياسة جماهيرية الى بغداد والكاظمية ، ليضغط على النظام ، وهنا بادر النظام الى إخراج ضابط عراقي معارض ومعتقل (هو رشيد مصلح)، في الإذاعة والتلفزيون ليتهم ابن السيد محسن الحكيم (السيد مهدي) بأنه جاسوس لإيران وأمريكا. وكانت الحكومة كما سمعت يومها مستعدة للتراجع عن ذلك الاتهام إذا ما كانت تحدث أية اضطرابات احتجاجية ، ولكن شيئا كبيرا لم يحدث في العراق ، مما جرأ الحكومة على تسفير السيد مهدي الى دبي وإجبار الحكيم على التراجع نحو مقره في الكوفة (قرب النجف) والاعتزال في الدار. وعندئذ شعر السيد محمد الشيرازي بالخطر ، فاختفى هو أيضا في أحد بيوت كربلاء.

وعلمنا فيما بعد ان السيد حسن الشيرازي تعرض في معتقل (قصر النهاية) الى تعذيب شديد جدا لكي يعترف أمام التلفزيون بقائمة من رجال الدين بأنهم عملاء لإيران أو أميركا ، ولكنه صمد ولم يعترف أو لم ينهر أمام التعذيب. وقامت حركة الشيرازي بحملة إعلامية واتصالات دولية في خارج العراق من اجل إطلاق سراحه ، فتم نقله الى سجن بعقوبة ، وبعد تسعة أشهر افرج عنه.

تأسيس الحركة المرجعية أو منظمة العمل الإسلامي

كان التيار الشيرازي تيارا نشطا يعمل منذ بداية الخمسينات ولكنه كان يرفض فكرة التحزب والتنظيم الحزبي ، ولكنه أدرك بعد الضربة التي وجهت له باعتقال السيد حسن الشيرازي حاجته الى التنظيم ، وهنا قرر أركان التيار مثل السيد محمد الشيرازي والسيد كاظم القزويني والسيد محمد تقي المدرسي البدء في تنظيم الشباب ، وأوكلوا مهمة إدارة التنظيم الى السيد المدرسي بشرط التأكيد على التبعية للمرجعية الدينية ، وقد كنت منخرطا في التنظيم من حيث لا ادري بوجوده ، بل يمكن القول أنى ولدت ونشأت في أحضان الحركة المرجعية . وقد علمت بالتنظيم رسميا في نهاية عام 1969 بعد إطلاق سراح السيد حسن الشيرازي و وفاة السيد الحكيم ، وذلك عندما حوّلني أستاذي السيد مجتبى الشيرازي الى ابن أخيه السيد هادي المدرسي العائد لتوه من لبنان ، وأوكل اليه مهمة الإشراف على قيامي مع مجموعة من الزملاء هم الشيخ صاحب الصادق والشيخ كاظم السباعي والشيخ محمد أمين الغفوري ، بتأليف كتب إسلامية . وقد بدأت بتأليف كتاب عن الأمام الحسين ، تحت عنوان: (الحسين كفاح في سبيل العدل والحرية) حاولت فيه أن اقدم قراءة جديدة مغايرة لما كان متعارفا بين الأوساط الدينية الشعبية من أن الحسين قتل مظلوما فقط ، وأن الله قدر له ان يقتل في كربلاء ، قراءة تقوم على التركيز على الجوانب الثورية والكفاح المسلح والانتصار لمبادئ العدل والحرية ، وقد ساعدت الحركة أو أستاذي الجديد السيد هادي المدرسي على طبع الكتاب سريعا في بيروت عام 1970، وعندما رأيت نسخة منه في كربلاء غمرني شعور هائل بالنجاح والإنجاز.

وبدأنا في التنظيم نتلقى دروسا سياسية ، ونتحدث عن الثورة الإسلامية القادمة ، وقد انعكست هذه الروح على هتافات (موكب عزاء الحي الحسيني) الذي كنا نهيمن عليه فأخذت عبارات كـ: (الثورة الحسينية) تتردد في أشعاره وقصائده ، بدلا من الطابع التقليدي الحزين المجرد الذي كان يغلب على سائر المواكب الحسينية.

وبالرغم من أننا كنا نحمل فكرا شيعيا إماميا قويا ، إلا إننا لم نجد مانعا من الانفتاح على الفكر الإسلامي (السني) العام ، وبالخصوص كتابات قادة الأخوان المسلمين مثل سيد قطب ومحمد البهي ومحمد جلال كشك ومحمد قطب وغيرهم ، التي كانت تشكل العمود الفقري لمكتبتنا.

وفي تلك الأثناء تعززت علاقتنا )برجال الدين المناضلين في إيران( ، من أنصار الإمام الخميني ، وذلك إثر زيارة للسيد مصطفى الخميني ورجل كان يسمي نفسه (السيد سميعي) الى مدرستنا (الحسنية) في إحدى المناسبات الدينية واستضافتنا لهم ، ثم بدءوا يعطوننا نسخا من محاضرات الإمام الخميني حول ولاية الفقيه أو الحكومة الإسلامية ، التي رأينا فيها تطابقا مع وجهة نظرنا حول ولاية الفقيه. وكان لهذه العلاقة دور في مستقبل العلاقة بين حركتنا والثورة الإيرانية القادمة بعد عشر سنوات.

ولم يكد السيد محسن الحكيم ، المرجع الأعلى ، يتوفى في بغداد في نهاية سنة 1970 ، حتى سرت روح ثورية ضد النظام البعثي في جميع أنحاء العراق ، وقام الشيعة بعمل تشييع ضخم جدا للحكيم كتحد للحكومة ، ويمكن القول انهم حملوا جنازته من بغداد الى النجف على أكفهم ، حيث كانوا يشيعونه الى مسافة بعيدة خارج كل مدينة في الطريق ويستقبله أهالي المدن الأخرى من مسافة بعيدة. وعندما حضر الرئيس أحمد حسن البكر التشييع في بغداد هتف المشيعون الغاضبون :" سيد مهدي مو جاسوس اسمع يا الريّس.. سيد مهدي مو جاسوس اسمع يا الخاين" وذلك في إشارة احتجاج الى اتهام ابن المرجع الأعلى للشيعة بالتجسس قبل عام . وخرج أهالي كربلاء بدورهم الى قرب المسيب يستقبلون الجنازة ، وعندما وصلت الجنازة الينا وسمعت الناس يهتفون بتلك العبارة " سيد مهدي مو جاسوس اسمع يا الخاين.. اسمع يا الريّس" لم أتمالك نفسي من الانخراط مع المتظاهرين ، الذين هجموا على مخفر للشرطة في ناحية عون وهم يهتفون غاضبين :" أعلام الدولة.. نكسوها".

وكتبت في تلك السنة (1971) كتابي الثاني (تجربتان في المقاومة) الذي تحدثت فيه عن ثورة التنباك في إيران وثورة العشرين في العراق ، وذلك في محاولة لتعزيز خط الفكر المرجعي في مقابل الفكر الحزبي الذي كان يطرحه حزب الدعوة الإسلامية ، وكنا نخوض معه ومع أحزاب أخرى صراعا خفيا في كسب المتدينين. وبما أنى كنت امتلك القدرة على الكتابة فقد أخذ التنظيم يستعين بي تحرير المجلة الداخلية (المجاهدون) وفي إصدار نشرات ثقافية للأعضاء الجدد.

وبعد ذلك بعام كتبت كتابي الثالث (الإمام الصادق معلم الإنسان) الذي ركزت فيه أيضا على دور القيادة الإسلامية والإمامة الإلهية لأهل البيت وقيادة الفقهاء المراجع التي تشكل امتدادا لها. وكتبت بعده كتابي الرابع ( عشرة – واحد = صفر) وهو يدور حول موضوع الإمامة لأهل البيت، التي اعتبرتها جزءا مهما من الإسلام ، والذي إذا أسقطنا منه موضوع الإمامة فلن يبقى منه شيء ، واستعنت على فكرتي هذه بتأويل الآية التي يسوقها الشيعة الامامية عادة ، وهي (يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) ويشرحون ذلك بتبليغ إمامة علي الى المسلمين. وكان التنظيم يقوم بطبع كتبي هذه فورا في بيروت ، وينشرها هنا وهناك ، وكنا في العراق نحصل على بعضها بطرق مختلفة ، ونستفيد منها في تعبئة الشباب فكريا باعتبارها تمثل فكر الخط.

بعد وفاة السيد محسن الحكيم ، المرجع الأعلى للشيعة، قام النظام البعثي بحملة تهجير واسعة للجالية الإيرانية الكبيرة في العراق ، وخاصة من مدن النجف وكربلاء والكاظمية والبصرة ، فهجر حوالي خمسين ألف مواطن كانوا قد ولدوا هم وآباؤهم في العراق ، ولكنهم لم يحصلوا على الجنسية العراقية ، وكانوا يشكلون قاعدة للمرجعية الدينية المعارضة، فأراد النظام بتهجيرهم تجفيف الينابيع أو البحيرة التي تسبح فيها المرجعية. ورغم ان الإيرانيين المقيمين في العراق كانوا منعزلين بصورة عامة عن الشأن السياسي العراقي ، وهذا ما يفسر جزئيا ابتعاد الحركة الدينية الشيعية عن التدخل المباشر في الشؤون السياسية العراقية ، إلا انهم كانوا يشكلون دعما أساسيا للمرجعية الدينية. وهكذا أثر تسفير الأعداد الهائلة من الناس في خلخلة البنية الاجتماعية للحركة الإسلامية الناشئة في العراق .

وهكذا وجد السيد محمد الشيرازي نفسه يتعرض لجملة من الضغوط في قلة من الأعوان ، فهاجر من العراق في نهاية عام 1971 ، وترك في محله السيد كاظم القزويني الذي كان يحمل الجنسية العراقية، ثم ذهب الى الكويت. وخرج معه السيد محمد تقي المدرسي وإخوانه ، فقرر التنظيم ترفيعي الى مستوى قيادة عام 1972 وشكلنا لجنة من خمسة أعضاء بقيادة المرحوم الحاج علي محمد. وما لبث التنظيم ان تعرض لمحاولة انشقاق قام بها قيادي آخر (أبو جاسم) يفترض انه كان يقود خطا ثانيا أكثر سرية ، وهذا ما أدى الى حدوث صراع داخلي مرير ترك آثاره النفسية على الكثير من الأخوة المؤمنين المخلصين.

وفي السنة التالية قام النظام البعثي بحملة اعتقالات ضد رموز الخط كالسيد كاظم القزويني والشيخ عبد الزهراء الكعبي والشيخ ضياء الزبيدي والشيخ عبد الحميد المهاجر وعدد من الشباب الطليعي ، وأودعهم في معتقل الفضيلية شرقي بغداد. وكان اسمي من بين الأشخاص المطلوبين ، ولكني استطعت أن اختفي عن أعين المخابرات . وفكرت في نفس الوقت بالسفر الى خارج العراق.

وكانت أول رحلة لي الى البحرين في أيلول 1973 ثم منها الى الكويت وسوريا ولبنان.

تفجر الثورة الإيرانية سنة 1979م

وكان العالم العربي يتابع الثورة يوما فيوما ، نظرا للسياسة الصهيونية التي كان يتبعها الشاه. اما نحن في العراق وفي الحركة الإسلامية ، والحركة المرجعية بالخصوص ، فقد كنا نتابعها منذ انتفاضة 15 خرداد 1963 وأقمنا علاقات وثيقة وعملية مع (جماعة رجال الدين المناضلين في إيران) التي تشكل خط الإمام الخميني ، والتي تحمل نفس الأيديولوجية التي نحملها وهي نظرية (ولاية الفقيه). ولهذا فقد كان انتصار الثورة الإسلامية في طهران انتصار لنا أيضا .

ووجدت نفسي بعد خمسة عشر يوما من انتصار الثورة استقل الطائرة من الكويت الى طهران في وفد لتهنئة الإمام الخميني بالنصر.

افتتاح الإذاعة العربية

واتصلت مع مجموعة من الأصدقاء بالصديق القديم الشيخ (محمد المنتظري) الذي أصبح عضوا في مجلس قيادة الثورة ، وطلبنا منه ان يسمح لنا بافتتاح القسم العربي من الإذاعة الإيرانية الذي اغلق عند الانتصار. وهكذا ذهبنا الى مبنى الإذاعة والتلفزيون وأخذنا من مديرها الجديد (السيد صادق قطب زادة) رسالة الى إذاعة الأهواز. وذهبت فورا مع أحد الأصدقاء وهو السيد محسن القزويني (الذي كان يعرف بالباقري). ولم نستطع فتح إذاعة الأهواز ، فذهبنا الى عبادان، فجمعت الموظفين وطلبت منهم مباشرة البث هذا اليوم لمدة ساعتين في المساء.

كان لدينا تحليل للنظام العراقي أنه (نمر من ورق) وأنه يقوم على الخداع بوسائل الإعلام الهائلة التي يملكها ، فإذا عرينا النظام بواسطة الإذاعة ، فان الجماهير العراقية ستبادر الى الثورة. وهكذا بدأت أكتب كل يوم تحليلا سياسيا بعد نشرة الأخبار ، أسلط فيه الضوء على النظام العراقي.

وبعد ثلاثة أِشهر انتقل القسم العربي الى طهران ، وبدأنا نبث من هناك والتحق بنا عدد من الاخوة العراقيين الذي أخذوا يعدون البرامج والمقالات والمسرحيات الساخرة.

وعندما حل شهر محرم ، عملنا برنامجا خاصا ثوريا باسم (عراق اليوم يبحث عن حسين) وهو عنوان كراس أصدرته في الكويت قبل سنوات ، وما أن بدأ البث ، حتى بدأت الاتصالات تنهمر على مدير الإذاعة العام السيد قطب زادة ، الذي أصدر أمرا فوريا بإيقاف البرنامج. ولكنا لم نستسلم، فبدأنا اتصالاتنا الخاصة مع أصدقائنا في مختلف الدوائر ، وعاد قطب زادة فاتصل بنا بعد ساعة وقال خففوا البرنامج قليلا ، وتواصلت الاتصالات معه ، فعاد ليقول بثوا ما تشاءون ولكن ارفعوا الضغط عني. هذا رغم أنا كنا مجرد مجموعة متطوعين عراقيين نعمل مجانا وبصورة غير رسمية في الإذاعة والتلفزيون.

وذات مرة جاء سفير إيران في بغداد (السيد دعائي) وطلب منا تخفيف حدة اللهجة ضد العراق ، كما نقل لنا أحد الموظفين بأن وزير الثقافة الإيراني يعترض على برامجنا ، وعلمت من خلال أحد الأشخاص (السيد مرتضى القزويني) الذي طلبت منه إجراء مقابلة ضد العراق ، أن الإمام الخميني يرفض أيضا تلك الحملة الإعلامية ، فقد سأله شخصيا ونصحه بعدم إجراء المقابلة . ولكننا في ظل الفوضى الإدارية في بداية الثورة لم نكن نبالي أو نستمع الى أحد ، وكنا نحاول تنفيذ مخططنا في إثارة الشعب العراقي ودفعه نحو الثورة ، تحت شعار: (اليوم إيران وغدا العراق). وقد انضم الى حملتنا السيد محمد الشيرازي الذي هاجر من الكويت الى إيران وأخذ يصدر البيانات المتتالية ضد العراق.

وكان من الواضح أن الإذاعة كانت تشكل ضغطا كبيرا على النظام العراقي المرتبك ، الذي كان يحاول أن يرد على ما نقول كل يوم.

ولذلك اعتبر بعض المحللين الإذاعة العربية سببا من أسباب اندلاع الحرب بين العراق وإيران.

ومع استقطاب الإذاعة العربية للمستمعين في العراق وأنحاء العالم العربي ، أصبحت محل اهتمام حزب الدعوة الإسلامية في العراق ، الذي بدا أعضاؤه يهاجرون الى إيران ، وحدث نوع من المنافسة والاحتكاك بين كوادر منظمة العمل والحزب ، الذي كان يمثله الشيخ حسين الكوراني. مما دفعني الى الانسحاب من الإذاعة بعد مضي حوالي سنة من المشاركة فيها وقبل بدء الحرب العراقية الإيرانية. وفي تلك الأيام قام شاب عراقي يدعى (السيد حسين الهاشمي) كان يعمل في صحيفة (جمهوري إسلامي) بإجراء مقابلة تلفونية مع الشهيد الصدر ، وجاء بالشريط وبثه بالتنسيق مع مدير القسم الدولي (سليماني) . ثم أصدر الإمام الخميني يوما بيانا مفتوحا موجها الى السيد الصدر، يطلب منه البقاء في العراق ، بعد أنباء سمعها عن نيته بمغادرة العراق الى إيران. وقد نشر هذا البيان في الإذاعة الفارسية وترجم الى العربية ضمن القنوات الرسمية. وقد شكل البيان المفتوح صدمة للشهيد الصدر ولكل من سمعه ، إذ أنه كان يحمل معنى توكيل الإمام الخميني للصدر و إعداده لقيادة الثورة في العراق ، مما أخاف النظام العراقي كثيرا فبادر الى اعتقاله وإعدامه.

المعارضة العراقية في إيران

أدركنا منذ الوهلة الأولى لذهابنا الى إيران ، أنها بلد واسع متعدد الاتجاهات والخطوط ، ولاحظنا الموقف الرسمي الإيراني ، في ظل حكومة السيد مهدي بازركان ، أنه يميل الى إقامة علاقات طبيعية مع العراق ، وانه يلتزم باتفاقية 1975 الموقعة في الجزائر بين البلدين. ولذا فقد ذهب وزير الخارجية السيد إبراهيم يزدي الى السفارة العراقية في 17 تموز ليهنئهم بذكرى "الثورة". وكنا كمعارضة عراقية نريد من إيران ان تكون سندا لنا ومنطلقا للثورة ضد العراق، فكان علينا أولاً تعبئة الرأي العام الإيراني الذي كان ينظر بإيجابية الى نظام البعث ، باعتباره البلد الوحيد الذي آوى قائد الثورة الإمام الخميني مدة خمسة عشر عاما ، و أعطى الثورة نافذة إذاعية باللغة الفارسية ، وان كان قد ضغط على الإمام في الشهور الأخيرة وقيد حريته مما دفعه الى مغادرة العراق. ولتحقيق هذا الهدف بدأنا نكتب في الصحف الإيرانية مقالات عن الديكتاتورية في العراق ، وأصدرنا مجلة (الشهيد) وأخرجنا مظاهرة في ذكرى 17 تموز ، أمام السفارة العراقية في طهران. مما دفع الرئيس صدام حسين الى الشكوى من وزير الخارجية الإيراني إبراهيم يزدي الذي التقاه في مؤتمر عدم الانحياز في هافانا ، والطلب منه إعدام رئيس تحرير مجلة الشهيد التي نشرت رسما كاريكاتوريا له عند توليه منصبه الجديد ، ولكن يزدي اعتذر بأن المجلة غير خاضعة للحكومة في ظل الأجواء الديموقراطية الجديدة في إيران.

وبالتنسيق مع أصدقائنا في الحرس الثوري ، بدأنا نقيم قواعد عسكرية على الحدود ، لتسهيل عبور عناصرنا من والى داخل العراق. ولكن أحد الأخوة (الشهيد طالب العليلي) كان يلح ببدء العمل العسكري في داخل العراق ، ولم نكن قد اتخذنا قرارا بعد ، إذ لم نكن قد انتهينا من دراسة المشروع العسكري للتغيير. ولكنه ذهب الى العراق من دون استشارتنا ولا إخبارنا ، وقام بعملية الهجوم على كوادر حزب البعث في كربلاء ليلة العاشر من محرم. وأعقبه قيام أشخاص آخرين من الخط العسكري بمحاولة اغتيال طارق عزيز في الجامعة المستنصرية ، ثم هجوم (خالد) على موكب تشييع الضحايا في بغداد ، بقرار من قيادة العمل في العراق. ومع ذلك فقد تبنينا العمليتين في طهران وأصدرنا بيانات باسم (منظمة العمل الإسلامي في العراق).

وقد قرأت في التقارير الواردة من أصدقائنا في العراق : أن (خالدا) كان يتميز بشجاعة فائقة ويجيد تمثيل دور رجال الأمن ويندس فيما بينهم ، وأنه ذات مرة ذهب الى قاعة كان يفترض ان يحضر فيها طه الجزراوي أو غيره ، وراح يعطي أوامره لرجال الأمن حتى حسبوه واحدا منهم ، ثم وقف وراء المنصة لكي ينفذ عملية اغتيال للوزير ، ولكن هذا لم يأت ذلك اليوم. وكان الأخوة في داخل العراق يحسبوه بطلا مقداما ، ولكني كنت أشك بكونه شرطيا سريا مخادعا متسللا الى التنظيم ، وقد خدم النظام أكبر خدمة عندما هاجم المشيعين باسم منظمة العمل الإسلامي أو إيران.

كل ذلك دفع النظام العراقي الى اتخاذ قرار الحرب والاستعداد لها ، بشن حملة تهجير للعراقيين من أصل إيراني ، والذين يشك بولائهم للثورة الإيرانية. فهجر حوالي خمسين ألفا من مختلف المحافظات العراقية . وهنا دعا السيد محمد الشيرازي في بيان له الى تعبئة الشباب المهجرين في جيش للهجوم على العراق ، وتشكل بناء على ذلك (الجيش الثوري الإسلامي لتحرير العراق) مما دفع النظام العراقي الى احتجاز الشباب وتهجير الشيوخ والنساء والأطفال.

وقد تشكل الجيش الثوري العراقي ، بالطبع بالتنسيق مع الحرس الثوري الإيراني ، وأصبحت عضوا في قيادته السياسية ، المشكلة من مختلف الأحزاب العراقية المعارضة المتواجدة في إيران، ممثلا عن منظمة العمل الإسلامي. وكان يتولى الإشراف على الجيش الثوري السيد مهدي الهاشمي ، مسؤول قسم حركات التحرر في الحرس الثوري ، مع الشيخ محمد المنتظري.

و شن النظام العراقي الحرب على إيران في 22 أيلول 1980

ورأينا في الحرب فرصة جديدة لإسقاط النظام العراقي ، الذي لم نستطع إسقاطه عبر الإذاعة والإعلام ، وتوقعنا ان ينتفض الجيش العراقي ضد صدام الذي زجه في حرب لا يريدها ضد إخوانه في إيران الإسلامية الشيعية الثورية. بحيث بدأنا نحزم حقائبنا استعدادا للعودة الى العراق.

ومع اشتداد الحرب وتحقيق الإيرانيين لانتصارات على الجبهة ، وإصرار الإمام الخميني على الانتقام من صدام بإسقاطه ، ورفض كل الوساطات الدولية ، تزايدت آمال المعارضة العراقية بالانتصار، وكثفت تعاونها مع الجيش الإيراني ، وذهب البعض ليقاتل في صفوف الإيرانيين ضد الجيش العراقي ، باعتباره قتالا دفاعيا عن "الإسلام والثورة" ضد النظام "البعثي الكافر".

وكتبت في تلك الفترة كتابي (تجربة الثورة الإسلامية في العراق) الذي حاولت فيه أن انتقد الحركة الإسلامية العراقية والمرجعية الدينية ( وانتقدت بالخصوص تجربة السيد الشيرازي السلمية) وأن أتعرف على نقاط القوة والضعف فيها ، أملا بدعم خط المرجعية وولاية الفقيه في العراق في المستقبل.

منظمة العمل الإسلامي ، في إيران

وفي الوقت الذي كانت المنظمة محسوبة على السيد محمد الشيرازي ، كان هذا بعيدا عنها تماما ، ولا تربطه بأعضاء المنظمة الا الصداقة والتوجيه العام ، حيث لم تكن استراتيجية المنظمة السياسية والعسكرية تستوحي خطها من فكر الشيرازي ، الذي كان يرفض العمليات العسكرية داخل العراق، وخاصة التفجيرات الانتحارية ، وكذلك العلاقة الشديدة مع إيران ، ولذلك فقد قرر السيد الشيرازي تأسيس حركة جديدة باسم (حركة الجماهير المسلمة) وأخذ يدعو الى الشورى وانتخاب قادة المنظمة، ولكن الخلاف بينه وبين ابن أخته المدرسي لم يصل الى حالة التفجر، بحيث لم يشعر به الأفراد العاديون ، وظلوا يحسبون أنفسهم تابعين للشيرازي ، وهو لا يملك من أمر المنظمة شيئا.

العودة للحوزة العلمية

والدعوة للتشيع

في سنة 1982

كانت الحرب العراقية الإيرانية بدأت تأخذ طابعا عبثيا ودمويا رهيبا ، وأخذ السيد الشيرازي يدعو الى إيقافها ويقول: بأنها تسير في طريق مسدود ، ويدعو أعضاء المنظمة للخروج من إيران.

وفي هذه الفترة فضلت الاستقالة من منظمة العمل ، و التوجه نحو إكمال دراساتي الحوزوية التي أهملتها منذ خرجت من العراق.

وفي عام 1985 دعاني السيد المدرسي الى التدريس في (حوزة الإمام القائم) التي كان يشرف عليها وتضم طلبة من السعودية والخليج وبعض العراقيين والأفغان وغيرهم ، وتقع على مشارف طهران الشرقية في منطقة تسمى (مامازند) . وكانت أشبه بمدرسة كوادر حركية منها بحوزة علمية ، حيث كان الطلبة يجمعون بين الدراسة الفقهية والإسلامية وبين العمل التنظيمي والقيام بمهمات حركية مختلفة.

وبعد سقوط نظام جعفر النميري في السودان ، قررنا إنشاء فرع للحركة في السودان ، وقمت بالسفر عبر سوريا والقاهرة الى الخرطوم . وبقيت حوالي أربعين يوما قمت خلالها بالاتصال بمجموعة طلبة جامعيين وشيعت بعضهم ، ثم دعاني هؤلاء الى الحوار مع بعض أصدقائهم السلفيين (الوهابيين) فذهبت الى دارهم وجلست معهم الى آخر الليل. وفي الصباح سأل أحدهم صاحبه: كيف أصبحت؟ قال : أصبحت شيعيا.

وبعد ان كونت نواة شيعية قمنا بجلب بعض الأخوة الى (الحوزة القائمية) ليشكلوا بداية حركة شيعية في السودان . وبالطبع لم تكن للحكومة الإيرانية أية علاقة بالموضوع.

دراسة نظرية (ولاية الفقيه)

كانت تجربة الحكم في الجمهورية الإسلامية الإيرانية ، تشكل بالنسبة لنا نحن الشيعة العراقيين نموذجا صالحا للتطبيق في العراق ، وكنا في منظمة العمل الإسلامي أقرب ما نكون الى نظرية (ولاية الفقيه) التي قام على أساسها النظام الإيراني ، حيث كنا ندعو الى نفس النظرية في العراق. ولكن النظرية لم تكن واضحة لدى الجميع بالتفصيل ومنذ البداية ، ولذلك قررت منذ السنوات الأولى لوصولي الى طهران دراسة التجربة الإيرانية بدقة. وقد أخذت على الدستور الإيراني انه لا يعطي الفقيه صلاحية كاملة في الحكم ، ويشرك معه رئيس الجمهورية ، وتمنيت لو أن الخبراء الذين وضعوا الدستور ، يعطون الفقيه ولاية كاملة بمنحه حق تشكيل مجلس خبراء ومجلس وزراء ، ولا يدسون في الدستور "نظريات ديموقراطية غربية ليبرالية". وكنت اقف نظريا الى جانب الحزب الجمهوري الإسلامي في صراعه مع رئيس الوزراء مهدي بازركان و رئيس الجمهورية الأول بني صدر.

وفي سنة 1988 حدثت أزمة في إيران بين مجلس الشورى و وزارة العمل ، وبين مجلس صيانة الدستور ، حول قانون العمل ، الذي قدمته الحكومة ، وأقره مجلس الشورى ثمان مرات خلال ثمان سنوات ، وعارضه مجلس صيانة الدستور ، الذي وجد فيه مخالفة لبعض القوانين الإسلامية. وهنا استعان وزير العمل بالإمام الخميني وطلب منه دعم القانون ، خوفا من تحول العمال الى الشيوعية والمعارضة اليسارية ، فأجاز له الإمام العمل بالقانون قبل ان يأخذ صيغته القانونية النهائية. وهنا اعترض رئيس الجمهورية السيد علي الخامنئي ، وأعضاء في مجلس صيانة الدستور ، فألقى الإمام الخميني خطابا مهما جدا وطرح نظرية (ولاية الفقيه المطلقة) وقال : إن ولايته شعبة من ولاية الله والرسول والأئمة المعصومين ، وإن له الحق بتجاوز القانون ، وبمخالفة أية اتفاقية شرعية يعقدها مع الشعب ، إذا رأى بعد ذلك بأنها مخالفة لمصالح البلاد أو مخالفة للإسلام.

وقد استوقفني هذا الخلاف الدستوري ، وأحيا لدي رغبة قديمة في دراسة التجربة الإيرانية، فقررت القيام بدراسة اجتهادية دقيقة لموضوع (ولاية الفقيه) من مصادرها الأصولية والفقهية القديمة. واشتغلت سنة كاملة على هذا الموضوع الذي ساعدني السيد صادق الشيرازي على توفير بعض مصادره المجهولة. و درَّست الموضوع في مائة درس في حوزة القائم. وحصلت لي بعض الملاحظات البسيطة التي اختلفت فيها عن رأي الإمام الخميني.

وقبل أن أكتب الموضوع بصورته النهائية ، فكرت بعمل مقدمة تاريخية له، تستعرض آراء ومواقف علماء الشيعة خلال ألف عام ، زمن (الغيبة الكبرى) من موضوع نظرية (ولاية الفقيه). وأثناء بحث موضوع المقدمة ، الذي كنت اشتغل فيه سنة 1990 ، ذهبت الى زيارة الامام الرضا في مشهد خراسان ، وهناك تعرفت على مكتبة خاصة تابعة لمركز دراسات يديره السيد جواد الشهرستاني ، ووجدت فيه حوالي مائة موسوعة فقهية شيعية تغطي فترة (الغيبة الكبرى) أي ألف عام من تاريخ الفقه الجعفري الامامي الاثني عشري ، وانكببت عليها أتابع ما يتعلق منها بمواضيع الثورة والسياسة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والخمس والزكاة والأنفال وصلاة الجمعة والحدود ، وما الى ذلك من المواضيع التي تتعلق بالحكومة. ولشد ما كانت دهشتي عندما وجدت فيها نظريتين متميزتين ، الأولى : نظرية التقية والانتظار للامام المهدي المنتظر الغائب ، والثاني: نظرية ولاية الفقيه. ووجدت أن هذه النظرية تطورت منذ حوالي المائتي عام ، على أساس نظرية (نيابة الفقهاء عن الامام المهدي) التي ولدت كجنين صغير في ظل (غيبة الامام) تم تطورت وتطورت الى أن أصبحت تشمل قضايا سياسية قريبة من الدولة، كإعطاء الفقهاء الإجازة للملوك للحكم نيابة عنهم ، باعتبارهم مصدر الشرعية الدستورية في عصر الغيبة ، لأنهم نواب الامام المهدي . وأول من طبق هذه النظرية كان المحقق الشيخ علي عبد العالي الكركي ، عندما منح الشاه الصفوي (طهماسب) الإجازة للحكم باسمه. أما قبل ذلك التاريخ فقد كانت تخيم على الشيعة نظرية التقية والانتظار ، التي كانت تحرم إقامة الدولة في عصر الغيبة ، الا عند ظهور الامام المهدي ، وذلك تبعا لنظرية الإمامة الإلهية التي كانت تشترط العصمة والنص والسلالة العلوية الحسينية في الامام. ومن هنا وجدت تناقضا كبيرا بين النظريتين ، وأن النظرية الثانية (ولاية الفقيه) تعتبر انقلابا على نظرية التقية والانتظار. خلافا لما كنت اعتقد حتى ذلك الوقت من أن نظرية ولاية الفقيه (أو المرجعية الدينية) هي امتداد لنظرية الإمامة ، وقد أوصى بها الامام المهدي لدى غيبته كنظام سياسي للشيعة في ظل (الغيبة الكبرى). وقلت إذا كان ذلك صحيحا فلماذا لم يعرفه جميع علماء الشيعة الأقدمون الذين كانوا يلتزمون بنظرية التقية والانتظار؟

ولإكمال الصورة كان علي أن أبحث فترة (الغيبة الصغرى) التي امتدت حوالي سبعين عاما بعد وفاة الامام الحسن العسكري سنة 260 هـ ، والتي يقال إن ولده (محمد المهدي المنتظر) كان يتصل فيها بمجموعة وكلاء أو نواب خاصين ، الى أن انقطعت النيابة الخاصة بوفاة النائب الرابع محمد بن علي الصيمري سنة 329 هـ. وذلك لأرى ما هي النظرية السياسية التي كان يلتزم بها أولئك "النواب الخاصون"؟ وهذا ما جرني الى بحث موضوع فترة الغيبة الصغرى. وهنا بدأت أتعرف لأول مرة على مسألة وجود (الامام محمد بن الحسن العسكري) وما كان يلفها من غموض وتساؤلات.

وبالرغم من كوني نشأت في بيئة دينية شيعية ودرست في الحوزة حتى أكملت (السطوح) وسنوات من درس (الخارج) أي الدراسات العليا ، وانخرطت في حركة سياسية تعمل من أجل تطبيق نظرية سياسية تقوم على فكرة وجود (الامام المهدي) ، وكتبت حوالي خمسة عشر كتابا حول أئمة أهل البيت والفكر الشيعي الامامي ، وقمت بالدعوة لهذا الفكر حتى أسست حركة شيعية في السودان.. الا أنى لم أكن قد سمعت بوجود عدة نظريات شيعية أو اختلاف داخلي حول وجود أو عدم وجود ذلك (الامام الثاني عشر) الذي كنت اعتبره حقيقة لا يعتريها الشك ، وبديهة عشت عليها وانتظر قدومها في أية لحظة.

أتذكر هنا أن الخطيب السيد محمد كاظم القزويني كان يبشر سنة 1398 هـ وهو في كربلاء بأن موعد ظهور الامام المهدي قد اقترب وانه سيحل بعد 12 عاما فقط ، ويلوح بيديه هكذا. ولذلك فقد استقبلت نبأ قيام (المهدي المنتظر) في مكة سنة 1400 هـ بالترحاب ، وتوقعت ان يكون هو ذلك الامام ، الذي تبين فيما بعد انه (محمد بن عبد الله القحطاني) رفيق (جهيمان العتيبي).

وكانت صدمتي الكبرى عندما وجدت مشايخ الفرقة الاثني عشرية كالشيخ المفيد والسيد المرتضى والنعماني والطوسي ، يصرحون ويلوحون بعدم وجود دليل علمي تاريخي لديهم على وجود وولادة (ابن) للامام الحسن العسكري ، وانهم مضطرون لافتراض وجود ولد له لكي ينقذوا نظرية (الإمامة الإلهية ) من الانهيار. ويقولون: نحن بالخيار بين الإيمان بذلك الولد المفترض ، وبين رفض نظرية الإمامة ، فإذا كانت نظرية الإمامة صحيحة وقوية وثابتة ، علينا أن نسلم بوجود ولد في السر ، حتى لو لم تكن توجد عليه أدلة شرعية كافية ، وإذا لم نقتنع بوجود ذلك الولد ، فعلينا التراجع عن نظرية الإمامة، وهذا أمر غير ممكن، فإذن علينا التسليم والقبول بوجود ولد في السر سوف يظهر في المستقبل ، وأنه المهدي المنتظر.

وكان إيماني حتى ذلك التاريخ بنظرية (الإمامة الإلهية) قويا لا يتزعزع ولا يقبل الشك ، وقد استطعت ان أشيّع بعض (الوهابيين) في ليلة واحدة في السودان ، وان أؤسس حركة شيعية في السودان واستقدم بعض الطلبة للدراسة في الحوزة لدينا في طهران. وكنت أعمل في تلك الأيام على وضع خطة لتشييع الشعب الكويتي ، والعالم الإسلامي بصورة عامة. الا أني وجدت نفسي أمام تحد داخلي رهيب ، فاما أن تكون نظرية الإمامة صحيحة أو لا تكون. وبما أنى لم اقتنع بوجود (الامام الثاني عشر) فقد كان لزاما عليّ أن أبحث موضوع الإمامة لكي أرى مدى صحته. وتركت موضوع الامام المهدي جانبا ، ورحت أقرأ ما يتعلق بموضوع الإمامة من مصادر كتب الشيعة القديمة التي لم أقرأها من قبل ، ولا توجد ضمن البرنامج الدراسي للحوزة ، ما عدا كراس صغير للشيخ نصير الدين الطبرسي ، يعرف باسم (الباب الحادي عشر) فقرأت (الشافي) للسيد المرتضى ، و(تلخيص الشافي) للشيخ الطوسي ، وكتب الشيخ المفيد المتعددة وكذلك ما توفر من كتب حول الموضوع في مكتبات مدينة قم وطهران ومشهد.

وكانت مفاجأتي الثانية أو الثالثة عندما اكتشفت أن نظرية (الإمامة الإلهية) الطافية على سطح التاريخ والفكر السياسي الشيعي ما هي الا من صنع (المتكلمين) ولا علاقة لها بأهل البيت . وذلك لأنها تتعارض مع أقوالهم وسيرتهم ، ولا يمكن تفسيرها الا تحت ستار (التقية) التي كان يقول بها (الباطنيون) الذين كانوا ينسبون الى أئمة أهل البيت ما يشاءون من نظريات وأقوال تتنافى مع مواقفهم الرسمية ، بحجة الخوف من الحكام ومن إبداء رأيهم بصراحة.

ووجدت أن نظرية أهل البيت السياسية ترتكز على مبدأ (الشورى) في حين أن (الإمامة الإلهية) تقوم على تأويلات تعسفية للقرآن الكريم وعلى أحاديث مشكوك بصحتها ، وأنها لا تمتلك أي سند تاريخي ، حيث كان أئمة أهل البيت يرفضون النص على أحد من أبنائهم أو الوصية اليه بالإمامة ، ولذلك قال (المتكلمون الباطنيون) بأن الإمامة تقوم على علم الأئمة بالغيب وعمل المعاجز ، وهذا ما يصعب إثباته في التاريخ الشيعي وما كان يرفضه أهل البيت أنفسهم ، فضلا عن العقل والشرع. إضافة الى تعرض نظرية الإمامة التي كان يقول بها فريق صغير باطني من الشيعة في القرنين الثاني والثالث الهجريين ، الى امتحانات عسيرة تتعلق بمسألة عمر الأئمة الصغير مثل الامام الجواد والهادي والإمام الثاني عشر المفترض ، حيث كان كل واحد منهم لا يتجاوز السابعة.

وأدركت عندها أن نظرية الإمامة المفتعلة والمنسوبة الى أهل البيت كذبا و زورا ، وصلت الى طريق مسدود بوفاة الامام الحسن العسكري دون خلف من بعده ، وأن بعض أعوانه الانتهازيين ادعوا وجود ولد له في السر وخلافا لقانون الأحوال الشخصية الإسلامي ، من أجل إنقاذ نظريتهم الباطلة من الأساس. وهكذا أسسوا الفرقة (الاثني عشرية) في غيبة من وجود أحد من أئمة أهل البيت .

نظرت الى نتائج بحثي من زاويتين ، الأولى: هي زوال الخلافات التاريخية العقيمة بين الشيعة والسنة عن "أحقية" أهل البيت بالخلافة بالنص من الله تعالى و "اغتصاب" الآخرين لها. وإعادة توحيد الأمة الإسلامية ، والثانية : هي الموقف من نظرية ولاية الفقيه والمرجعية الدينية والنيابة العامة للفقهاء في عصر الغيبة ، والعودة الى الشورى وحق الأمة في اختيار الحكام وتحديد صلاحياتهم . وكان التوصل الى هاذين الموضوعين يشكل نقطة تحول جذرية في حياتي ومسيرتي وعلاقاتي. وبما أنى كنت أعيش في إيران في ظل نظام ولاية الفقيه ، فلم يكن من السهل البوح بهذه النتائج الا لدوائر ضيقة جدا من الأصدقاء والزملاء والأساتذة. أول من حدثته عن الموضع كان والدي العزيز (رحمه الله) الذي تجاوب معي تماما وكأنه ينتظر ما أقول ، أما والدتي فقد امتعضت كثيرا وحزنت وتأسفت على أن يكون ثمرة حياتها تأتي بهذه النتيجة وهي إنكار نظرية الإمامة لأهل البيت ، ونفي وجود الامام الثاني عشر. ولكنها بعد فترة وبعد حوار طويل معي ومع والدي ، قبلت بالفكرة بعد أن تفهمتها جيدا. لقد كانت امرأة مؤمنة جدا ومحبة لأهل البيت ومثقفة بالثقافة التقليدية ، وقد ربتني هي على الإيمان بوجود الامام المهدي وانتظاره ، ولكنها لم تكن انسانة متعصبة أو متحجرة ، وأصبح والديّ كلاهما من أشد المدافعين عن أفكاري والمبشرين بها بين الأهل والأقارب والأصدقاء . وتحملا من أجل ذلك كثيرا من المعاناة والمقاطعة والأذى .

أبرز من ذهبت اليه للحوار معه ، كان مؤسس الحركة المرجعية ، المرجع السيد محمد الشيرازي ، وكان قد سمع بعض الشيء عني ، فطرح أثناء زيارته في مكتبه في قم ، موضوع المصير البائس الذي يتعرض له من ينكر حقوق أهل البيت . وضرب لذلك مثلا بالشيخ المنتظري الذي أنكر حق السيدة فاطمة الزهراء في (فدك) فأصابه ما أصابه من العزل والحصار والضغط ، وفهمت ما كان يقصد ، فقلت له : إن موضوع فدك بسيط جدا وهامشي ولا يستحق التوقف كثيرا ، وهناك قضايا أساسية تمس جوهر العقيدة الشيعية مثل موضوع وجود الامام الثاني عشر ، فقال: إذا تريد أن تعمل في الساحة عليك أن تتجنب الخوض في هكذا مواضيع . وقلت له: ليس مهما العمل أو عدم العمل ، المهم التحقق من عقيدتنا ومعرفة الحق من الباطل . وتجرأت فسألته فيما إذا كان قد بحث موضوع الامام المهدي بصورة مفصلة اجتهادية؟ فاعترف بصراحة أذهلتني قائلا: لا . وكان من المفترض به كمجتهد ومرجع قبل أن يبحث في القضايا الفقهية الفرعية أن يبحث ويجتهد في أساس العقيدة الشيعية الامامية الاثني عشرية التي يبني عليها بقية الأمور ، وسألته سؤالا آخر: هل قرأت حول الموضوع؟ قال: نعم. ولم تكن أمامنا فرصة للحوار ، فقلت له: إذن سوف أبعث لك بدراستي لكي تلقي عليها نظرة وتعطيني رأيك حول الموضوع.

الشخص الثالث المهم الذي قررت مفاتحته في طهران، كان هو أستاذي السيد محمد تقي المدرسي، زعيم منظمة العمل الإسلامي ومؤسس الحوزة القائمية ، والكاتب والباحث والمفكر الإسلامي الكبير، ولكنه كان يومها في نهاية عام 1990 منهمكا في متابعة ذيول اجتياح صدام للكويت ، واستطعت أن آخذ ساعة واحدة من وقته ، وأحدثه بالتفصيل عن خلاصة دراستي ، وطلبت منه أن يشرح لي كيف يؤمن بوجود الامام المهدي ، وأن يقدم لي أية أدلة يملكها ولم اطلع عليها حول الموضوع. فقال لي: بان هذا الموضوع من أمور الغيب. قلت له: نحن المسلمين نؤمن بالغيب كالملائكة والجن والجنة والنار لأنا نؤمن بالقرآن الكريم ، ولا يمكن أن نقبل بأي أمر آخر لا يوجد في القرآن ، ولم يثبت من خلال السنة ولا من أحاديث أهل البيت. وإذا كان مشايخ الشيعة يقولون إن الإيمان بوجود ولد للامام العسكري هو افتراض فلسفي لا دليل عليه ، فكيف يمكن اعتبار ذلك من أمور الغيب؟

قال لي وهو ينظر الى ساعته : أرجو ان ترجئ الكتابة حول الموضوع حتى تبذل مزيدا من الوقت في البحث والتمحيص ، ولا تستعجل ، ثم اكتب بحثك وقدمه لي مكتوبا حتى أستطيع مناقشته . قلت له: عظيم.. وهذا ما أدركه أنا جيدا فان موضوعا مهما وخطيرا كموضوع وجود الامام الثاني عشر ليس أمرا سهلا يمكن التلاعب به ، وأعدك بأني لن انشره الا بعد استكمال بحثي لسنة أخرى.

وهكذا وعدت عددا صغيرا آخر من أصدقائي واخواني . ولم أنس المحافظة على السرية المطلقة وحصر البحث حول الموضوع في أضيق دائرة من الاخوان المؤتمنين.

أكملت كتابة المسودة الأولى من الكتاب في نهاية عام 1992 وأرسلتها الى المدرسي كما وعدته ، وقمت بكتابة رسائل الى حوالي ثلاثمائة الى أربعمائة عالم ومفكر من علماء الشيعة وقياداتهم أعرض عليهم خلاصة ما توصلت اليه من عدم صحة نظرية الإمامة وعدم وجود الإمام الثاني عشر (محمد بن الحسن العسكري) ، واطلب منهم الاطلاع على مسودة كتابي ومناقشته ، وتقديم ما لديهم من أدلة وبراهين قد لم اطلع عليها. أعلنت للجميع استعدادي للتراجع عن النتائج التي توصلت اليها فيما إذا حصلت على أي دليل مقنع. وقلت للكثير منهم بأني على استعداد لعمل حفلة وإحراق كتابي إذا ما اكتشفت أي دليل مخفي عني، وأيقنت بصحة النظرية الامامية وصحة وجود الإمام الثاني عشر.

ووجهت رسالة مفتوحة الى الحوزة العلمية في قم بعقد ندوة علمية لمناقشة هذا الموضوع، واستعدادي للمشاركة فيها. ولم أتلق بالطبع أي جواب.

وبعد فترة من المناقشة والحوار لمدة خمس سنوات قمت بطبع الكتاب سنة 1997 في لندن، فصدرت منذ ذلك الحين عشرات الكتب التي تحاول إثبات ولادة (الإمام محمد الحسن العسكري) ووجوده، وقد قمت بمراجعتها والرد على أهمها في كتاب خاص تحت عنوان (حوارات أحمد الكاتب مع العلماء والمراجع والمفكرين حول وجود الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري) وطبعته سنة 2007 وقلت في ذلك الكتاب بأن معظم الردود يؤكد ما وصلت اليه من أن موضوع "الإمام الثاني عشر" ما هو إلا افتراض فلسفي وهمي أكثر منه حقيقة تاريخية، وإن أغلب الردود تحاول إثبات وجوده عن طريق الاستدلال النظري أو ما يسمى بالدليل العقلي، وتفتقر الى الأدلة العلمية التاريخية.

السيرة الفكرية الذاتية للكاتب مع قناة الحوار، في برنامج "مراجعات" – خمس حلقات

الحلقة 1 الجزء الأول

http://uk.youtube.com/watch?v=psKtQylsawo

الحلقة 1 الجزء الثاني

http://uk.youtube.com/watch?v=H6LHLr0PRTU

الحلقة 1 الجزء الثالث

http://uk.youtube.com/watch?v=pl3jOeiGbFU

الحلقة 1 الجزء الرابع

http://uk.youtube.com/watch?v=p4TgHb1ovvY

الحلقة 1 الجزء الخامس

http://uk.youtube.com/watch?v=oIiBNGrq9EI

الحلقة 2 الجزء الأول

الحلقة2 الجزء الثاني

http://uk.youtube.com/watch?v=CzdHrQZT-HA

الحلقة2 الجزء الثالث

http://uk.youtube.com/watch?v=yOXZ9g8kKpI

الحلقة 2 الجزء الرابع

http://uk.youtube.com/watch?v=cq9Lmo-FiHI

الحلقة 2 الجزء الخامس

http://uk.youtube.com/watch?v=vQ--hS3xwvg

الحلقة 3 الجزء الأول

http://uk.youtube.com/watch?v=vSO9BGLgOH4

الحلقة 3 الجزء الثاني

http://uk.youtube.com/watch?v=of2-K04lMrg

الحلقة 3 الجزء الثالث

http://uk.youtube.com/watch?v=MFrkc7u8eNA

الحلقة 3 الجزء الرابع

http://uk.youtube.com/watch?v=y6sglq-ccaQ

الحلقة 3 الجزء الخامس

http://uk.youtube.com/watch?v=xp89fztSWVk

الحلقة 4 الجزء الأول

http://uk.youtube.com/watch?v=fEUwCz9PJjc

الحلقة 4 الجزء الثاني

http://uk.youtube.com/watch?v=nFPLQSnj8Uw

الحلقة 4 الجزء الثالث

http://uk.youtube.com/watch?v=Q599-lt5o3g

الحلقة 4 الجزء الرابع

http://uk.youtube.com/watch?v=ig0afYjYc_c

الحلقة 4 الجزء الخامس

http://uk.youtube.com/watch?v=LvrQu9def7c

الحلقة 5 الجزء الأول

http://uk.youtube.com/watch?v=A0CvdeHUopk

الحلقة 5 الجزء الثاني

http://uk.youtube.com/watch?v=VIwHCVVmO68

الحلقة 5 الجزء الثالث

http://uk.youtube.com/watch?v=6T87hEH23Hs

الحلقة 5 الجزء الرابع

http://uk.youtube.com/watch?v=JILUyaGNQoM

الحلقة 5 الجزء الخامس

http://uk.youtube.com/watch?v=G1R3BLEpQ-Q

No comments:

Post a Comment